نحتاج إلى حقوق ثقافية للجميع – بسمة الحسيني
Oct 2018تسلّمت الناشطة الثقافية السيّدة بسْمة الحُسيني، مؤخّرا بمدينة مكسيكو، جائزة "منظمة المُدن والحكومات المحلية المتحدة- أجندة 21"، وهي الجائزة التي تُمنح سنويا للشّخصيات الرائِدة في مجال العملِ الثقافي والتي يُكون لإسْهامها دورٌ بارز في ربْط الثقافة بالتنمية.
في ما يلي الترجمة العربية لنص المقال الذي كتبته السيدة بسمة الحسيني بمناسبة تسلّمها للجائزة.
تُستَخدم العبارة المتكررة بأن العالم أصبح قرية صغيرة بفضل التطور في تكنولوجيا الاتصال للإشارة إلى أن البشر أصبحوا أكثر تواصلًا فيما بينهم من أي وقت مضى، لاسيما مع اتّساع نطاق استخدام شبكات التواصل الاجتماعي. ولكن، رغم التقدم الكبير الذي أحرزه العالم في تكنولوجيا الاتصالات خلال القرن الماضي، والتحول الإيجابي الكبير في الوعي الذي نتج عن وضع أول مجموعة أعراف أخلاقية في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أعتقد أننا أمام عالم منقسم بحدة اليوم، من حيث توزيع الثروة والحصول على الخدمات الأساسية. وتجدر الملاحظة أيضًا، أنه رغم ازدياد الاتصال في العالم، أصبح التنقل جسديًا بين الدول أصعب من أي وقت مضى بسبب القيود التي تفرضها الدول الغنية على حركة الزوار من الدول الأفقر.
يعيش قرابة خُمس سكان العالم، البالغ عددهم 7.6 مليارات نسمة، في العشوائيات ومخيمات اللاجئين وغيرها من أشكال السكن غير المدروس التي تفتقر إلى معظم الخدمات الأساسية، أو كلها، مثل الماء والصرف الصحي والحماية من ظروف الطقس الشديدة والرعاية الصحية والمدارس. يتركز معظم هذا الجزء من سكان العالم في الدول النامية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط.
الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، صادمة. حسب تقرير صادر في كانون الثاني/يناير 2014 عن مؤسسة أوكسفام[1]، يمتلك أغنى 85 شخصًا في العالم، مجتمعين، ما يملكه النصف الأفقر من سكان العالم مجتمعين، أي نحو 3.5 مليارات نسمة. وتقول دراسة أعدّها مصرف كريدي سويس، في تشرين الأول/أكتوبر 2014، إن 1 في المئة من سكان العالم، حاليًا، يمتلكون نصف الثروة العالمية، وأن توسّع الهوة المتسارع قد يؤدي إلى كساد اقتصادي. وقال تقرير آخر من أوكسفام[2]، صدر في كانون الثاني/يناير 2018، أن 82 في المئة من الثروة العالمية التي تم إنتاجها خلال عام 2017 كانت من نصيب 1 في المئة من أثرى سكان العالم.
خلال العقدين الماضيين، قد تكون الحرب هي العامل الأكثر تأثيرًا في انقسام البشرية، على الأقل في المنطقة التي أنتمي إليها، المنطقة العربية. تحولت المنطقة إلى ساحة المعركة لقوى العالم والإيديولوجيات المتصارعة، وإلى منجم ذهب لشركات صناعة السلاح.
كلفة هذه الحروب صادمة حقًا: أكثر من 10 ملايين لاجئ[3] من سوريا والعراق واليمن وجنوب السودان وفلسطين، ونحو مليونَي قتيل، منذ عام 2003، في العراق وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا ومصر والبحرين وتونس، ومئات الآلاف من السجناء السياسيين، وعدد غير معروف من التنظيمات الإرهابية، وعدد غير معروف من القواعد العسكرية الأجنبية، وإنفاق الدول العربية أكثر من 150 مليار دولار على التسليح خلال عام 2015[4] وحده، واضطرار أكثر من 100 مليون نسمة للعيش تحت خط الفقر، البالغ 2.5 دولار في اليوم[5]، في هذه المنطقة الغنية بالنفط.
أعتقد أن انعدام المساواة الاقتصادية والحرب هما الخطران الأكبر على مستقبل البشرية، فكلفتهما أكبر مما تستطيع البشرية احتماله، وأثرهما لا يقتصر على التغيرات الملموسة: الضحايا واللاجئون والمجاعات وسوء التغذية والأمّية والأوبئة ومعدلات الوفاة، إلخ. يكمن الأثر الأعمق والأبقى في حرمان البشرية من إمكانيات التقدم. إن خسارة المواهب البشرية والفكر بسبب الحروب والفقر خطر حقيقي على أجيال المستقبل.
في المساعي والنقاشات العالمية للحد من أثر هذين العاملَين، من أهم العوامل التي لا تلقى اهتمامًا كافيًا: الفنون والثقافة. يمكن أن تُصاب المجتمعات التي تعاني من الحرب والفقر والعنف والتهميش الاجتماعي باليأس. تشعر هذه المجتمعات أنه ليس هناك من يلاحظ ألمها، وأن العلاقة الوحيدة التي تستطيع إقامتها مع الآخرين هي انتظار المساعدة. إلا أن قدرة هذه المجتمعات، والأفراد المنتمين إليها، على خلق الأعمال الفنية والاستمتاع بها، تضعها في الطرف المُرسِل والمانح. يمكن لأبناء هذه المجتمعات صناعة أعمال يحتاجها الناس في مجتمعات أخرى ويستمتعون بها. لن يغير هذا من واقع وقوعهم ضحية للحرب والاستغلال الاقتصادي، ولكنه يمنحهم القدرات التي يوفرها الفن، القدرة على تخيل واقع أفضل من الواقع الذي يعيشونه، القدرة على الأمل.
أصبح إثبات أن الثقافة أساس للتغير الاجتماعي مسعى عبثيًا إلى حد ما. رغم العديد من الحجج التي طرحها الفنانون والناشطون الثقافيون، المدعومة عادةً بقصص حقيقية وبالأدلة، يبدو أن المنطق القائل إن الفقراء والمهمشين يحتاجون إلى الفن غير مقنع لصناع السياسات والسياسيين والاقتصاديين، والأهم، لوسائل الإعلام. ثمة قناعة متجذرة لدى الزعماء، حتى الأكثر تقدمية منهم، أن القدرة على التعبير الإبداعي والرغبة في الاستمتاع بالفن حكر على الطبقات الحاكمة، وليست ضرورية للدول والمجتمعات الفقيرة. إنه لمن المحبط أن يشهد المرء، مرارًا، عجز المؤتمرات والمنظمات الدولية عن التنويه إلى أهمية الفنون والثقافة، باعتبارها أهم مجالات النشاط الإنساني، حيث يتم نقد وخلق القيم والأفكار، وحيث يمكن المساهمة في معالجة جذور عدم المساواة والإقصاء والعنف والصراع. يظهر الفشل والعجز في كل مرة يُعلَن عن مؤتمر دولي أو خطة عالمية، ونكتشف أن الفنون والثقافة تكاد لا تُذكر، وإن ذكرت، نجدها في أدنى قائمة الموضوعات أو المجالات.
يزيد ذلك من المفارقة في أن الفنانين والكُتّاب هدف أساسي للأنظمة الاستبدادية في كل مكان. إذا لم يكن الفن مهمًا، فلِمَ يُسجَن الفنانون وتُمنَع أعمالهم؟ الأمثلة كثيرة، من عثمان كافالا في تركيا إلى بوبي واين في أوغندا، يوضع الفنانون والناشطون الثقافيون خلف القضبان، وتُغلَق المسارح وصالات العرض، وتُمنَع القصائد والأغنيات. تتحول حرية التعبير إلى ميزة للأشخاص الأثرياء والدول الغنية. من المحزن ما يبدو من أن الطغاة هم الوحيدون القادرون على إدراك دور الفنون والثقافة، أو الجانب الفاعل لهذا الدور.
عبر قدرته على مناقشة الأفكار والقيم ونقدها وخلقها، يستطيع الفن لعب أدوار عديدة، فهو يمنح الناس أدوات ومنابر لتحليل واقعهم والتعبير عن مخاوفهم وشكوكهم وتشكيل واستنتاج قناعاتهم ومعتقداتهم واستنباط الوقائع وتعميمها، وبطبيعة الحال، الاستمتاع بالحياة. كثيرًا ما يتم التغاضي عن هذا الدور في الحالات النادرة التي يلقى فيها دور الفن اهتمامًا عامًا. لِمَ يُنظَر إلى الاستمتاع بالحياة على أنه أمر غير مهم للمحتاجين والمهمشين في الوقت الذي ينفق الأثرياء المليارات على ذلك يوميًا؟
حاولت اليونسكو تعويض هذا النقص في معاهدتها لعام 2005[6]، لاسيما في البند 13 الذي جاء فيه: "يجب أن تسعى الأطراف لدمج الثقافة في سياساتها التنموية على المستويات كافة لتوفير شروط تعزز التنمية المستدامة". إلا أن الأمثلة على تنفيذ هذا البند بنجاح قليلة جدًا في الدول الموقعة على المعاهدة، والبالغ عددها 145 دولة.
ثمة حاجة ملحة لمناصرة هذه القضية بشكل أكبر، لا على المستويات العليا لصناعة السياسات فحسب، بل بين من نعتبرهم "مقتنعين" أيضًا، أي الزملاء من قطاعات أخرى في المجتمع المدني وحركات الشباب والمناضلين للحرية، والأهم، بين من نسعى نحن الفنانين والناشطين الثقافيين لحماية مصالحهم. تؤدي فكرة أن الفن رفاهية لمن يستطيعون احتمال كلفته إلى حرمان الفقراء والمهمشين من السلاح الأكثر فاعلية لديهم لإحداث التغيير الاجتماعي. تأتي الأموال التي تنفقها الدول النامية على بناء دور أوبرا فاخرة وصالات عرض وطنية خالية من برامج وفضاءات يجب أن تتوفر في كل حي عشوائي ومخيم لاجئين وقرية لتمكين التعبير الإبداعي الحر وتشجيعه. هنا يلعب الفن دوره الأساسي: في تحويل الصعوبات التي نواجهها والفظائع التي نشهدها إلى مساءلة حقيقية للظلم والقمع والعنف. هنا أيضًا يكتشف الأكثر تعرضًا للمعاناة المتعة، ويستعيدون قدرتهم على التواصل مع الآخرين. بالنسبة لمن يعيشون في هذه المجتمعات، وهم أكثرية البشر، يحدث الفن تحولًا حيويًا نحو الأفضل.
ليست هذه دعوة للتخلي عن صالات الموسيقى الفاخرة والمهرجانات الدولية الرنانة، والعمل حصرًا في العشوائيات والقرى ومخيمات اللاجئين، ولكن علينا جميعًا أن ندرك أن هذه المجتمعات موجودة، وأن من يعيشون في هذه المجتمعات لديهم الحاجة نفسها للتعبير الفني، والقدرة عليه، الموجودة لدى أحياء الطبقة الوسطى والضواحي الثرية. في عبارة واحدة: نحن بحاجة للحقوق الثقافية للجميع. في الواقع، هذا هو ما تروج له حزمة أدوات "الأنشطة الثقافية 21" من جمعية المدن والحكومات المحلية المتحدة.
يستطيع المجتمع الدولي اختيار عدم الاعتراف بهذا، ولكننا عندها مضطرون لبناء المزيد من الجدران، والتمسك بشكل أقوى بالخوف ونظريات المؤامرة، وأن نكون أفقر وأقل أمنًا. لن نكون أفقر بالثروة المادية فحسب، بل بحرمان مجتمعاتنا من ثروة الفن الذي يمكن لمن نختار تجاهلهم خلقه والاستمتاع به. وسنكون أقل أمنًا رغم المليارات التي تُنفَق على التشديدات الأمنية، لأن معنى الأمن يتجاوز الأمان الجسدي المباشر من الخطر، ويمتد ليشمل أمن مستقبلنا كبشر عقلاء وقادرين على التعاطف. لن نكون أثرياء أو آمنين إلا إذا وجدنا القوة في أعماقنا لتحدي الواقع، ووسّعنا خيالنا لنرى العالم الذي نرغب في العيش فيه وخلقه.
[1] https://www.oxfam.org/sites/www.oxfam.org/fles/bp-workingfor-few-political-capture-economic-inequality-200114-summ-en.pdf
[2] https://www.oxfam.org/en/pressroom/pressreleases/2018-01-22/
richest-1-percent-bagged-82-percent-wealth-created-last-year
[3] https://www.unrefugees.org/refugee-facts/statistics/; http://www.unhcr.org/fgures-at-a-glance.html
[4] https://www.sipri.org/sites/default/fles/EMBARGO%20FS1604%20
Milex%202015.pdf
[5] http://www.arabdevelopmentportal.com/indicator/poverty
[6] http://unesdoc.unesco.org/images/0014/001429/142919e.pdf