التموضع الجديد للفنون وللممارسات الثقافية العربية في العالم المعاصر
Mar 2015نص الباحثة والفاعلة جمانة الياسري في حلقة دراسية بعنوان "العلاقات الأوروبية العربية والتنمية المحلية الثقافية"، التي نظمها صندوق روبرتو شميتا في السابع والعشرين من شباط/فبراير ٢٠١٥ في بروكسل. النص الأصلي باللغة الإنكليزية.
باتت عولمة الفنون العربية المعاصرة اليوم حقيقةً لا جدال حولها. ففي الآونة الأخيرة، أصبح من الصعب تجاهل حضور النتاج العربي من الأدب والسينما والفنون البصرية والمسرح وما إلى ذلك ضمن خارطة الفنون العالمية. يوماً بعد يوم، تقدّم المهرجانات الدولية والمعارض والمؤتمرات والحلقات الدراسية ودور النشر مزيداً من الفرص لعرض وإبراز الإبداع العربي. وإذا كان هذا الاهتمام قد زاد على نحو ملحوظ بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، فإن ولعاً جديداً بالمنطقة العربية وبفنونها وثقافتها، أتى مع الانتفاضات العربية التي فاجأت العالم. بسبب هذا الاهتمام بالفنون والثقافة العربية، من المؤكد أن الإنتاج الفني والثقافي العربي قد استفاد من فرص تمويل ودعم جديدة، وذلك على مستوى دولي. ومن المفارقات الهامة، أنه وعلى الرغم من كل ذلك الاهتمام والدعم، فإن معظم الفنانين المستقلين ومنتجي الثقافة الذين يواصلون العمل والنضال، لا يتفقون مع الصورة التي تبثّها وسائل الإعلام الدولية والتقارير الرسمية عن صورة المنطقة وحول حقيقة ما يجري بها.
وبصورة فعلية، ومنذ عام 2011، تواجه معظم الدول العربية تحديات سياسية واجتماعية وثقافية. كانت هذه التحولات ولا تزال مصحوبة بتنشيط الفنون بالرغم من المناخ المعيق وغير المستقر، إذ وجد الفنانون والمثقفون ومنتجو الثقافة أنفسهم فجأة في حرب لا نهاية لها وعلى جبهات كثيرة وضعت بعضهم في مواجهة تهم قانونية وخطر الاعتقال، ناهيك عن تلقي بعضهم الآخر تهديدات بالقتل، أو حتى تعرضهم لنهايات مأساوية.
شهدت السنوات الأربع الأخيرة، وصول قاعدة جديدة من الفاعلين الثقافيين، بما في ذلك افتتاح العديد من المساحات الفنية والثقافية ذات الارتباط الوثيق والعميق بالمجتمعات المحلية، كجزء من إرادتهم في المشاركة بإعادة بناء المجتمعات التي ينتمون إليها وبنشر القيم المدنية في هذه الأوقات العصيبة. ولكن قبل كل شيء، شهدت السنوات الماضية فرار المئات من الفنانين والفاعلين الثقافيين طلباً للأمان في البلدان المجاورة، فضلاً عن أوروبا والعالم الغربي. ففي حالة العراق، ومؤخراً سوريا على سبيل المثال، قام معظم الفنانين والمثقفين بنقل وإعادة موضعة أنشطتهم خارج أوطانهم وفي أماكن مختلفة من العالم. وفي غمرة الرؤية الرومانسية لهذا الواقع والتي تركز على قدرة وكيفية قيام هذه المواهب بفرض جمالية معاركها على العالم، قد يميل المرء إلى نسيان التحديات التي تفرضها عملية إعادة التوطين تلك، عدا عن خطر الانزياح الكلي عن مجتمعاتها الأصلية: حتمية التكيف مع بيئة عمل جديدة، عدم القدرة على التشبيك في البلد المضيف، تعلم لغة جديدة.. إلخ.
ولذلك، يحثّنا التاريخ المعاصر على إعادة النظر في واقع الإبداع والإنتاج الثقافي العربي خلف حدوده الجغرافية وفي سياق النزوح الإجباري، وهو الأمر الذي يبدو اليوم عرَضاً أساسياً من أعراض المرحلة. وإنه لمن الضروري أيضاً أن نكون قادرين على مواكبة التحولات المستمرة لتأثيرهم المحلي والعالمي سواء عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية، أو عن طريق الفعاليات والمنابر الثقافية. علاوة على ذلك، يقودنا التفكير في جميع هذه المواقع المختلفة للتبادل الثقافي إلى مسألة قد تبدو نمطية إلى حد ما على الرغم من أهميتها، وتتلخص بالسؤال التالي: ما الذي ينتظره العالم اليوم من الفنان والفاعل الثقافي العربي؟
إن كان العالم يظهر اهتماماً متزايداً في النتاج الفني لهذه المنطقة، يبدو هذا الاهتمام محصور في أغلب الأحيان في ما يمكن اعتباره عرضاً مفرطاً لسردية الكارثة: وهي فكرة أن الشعوب العربية برمتها محكومة إلى الأبد بمصير ملعون. أجل، هناك عنف، بل وحتى عنف شديد في مختلف أرجاء المنطقة، ولكن هناك أيضاً رغبة بالحياة والإبداع وبتجاوز الكارثة. فيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، يبدو أن شروط التقدم إلى معظم برامج الدعم المتوفرة، تلعب بدورها دوراً حاسماً في زج المخيلة الجمعية في نظرة أحادية مفرطة في التشاؤم والكوارثية، ناهيك عن مئات البرامج التي تدفع الفنانين والفاعلين الثقافيين العرب إلى التحوًّل إلى ناشطين في مجال حقوق الإنسان، وذلك من أجل تلقي الدعم المطلوب لتنفيذ مشاريعهم.
في عصرنا الحالي، عصر الأزمة الاقتصادية العالمية وتجدد النداء بمزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية، أصبح من البديهي أن نقول إن المشهد الفني العربي بات هو الآخر في نقطة تحوِّل جذرية بين إرثه الثقافي الحديث ومستقبله، مما يؤدي بالتالي إلى تحوُّل في استراتيجياته الجمالية والعملية على حد سواء. وبسبب إلحاح الموضوع، وحتمية النتائج المتوقعة على المدى الطويل من التحولات الجديدة في عمليات الإنتاج في العالم العربي، يلزمنا الآن أخذ الوقت الكافي لتأمل وتحليل التموضع الجديد لهذه الممارسات في أوطانها الأصلية، كما في مختلف أرجاء العالم. يلزمنا تحديد الاتجاهات والتحديات الجديدة، كما ينبغي علينا تشجيع ومرافقة الأصوات والمبادرات الناشئة، وذلك عبر منح فرص عادلة لمشاركة الخبرات والمعرفة، وذلك دون أن نفرض على أحد أية حكاية ينبغي أن يحكي لنا.
أجل، يسحقنا الخوف من شتاء طويل. ومع ذلك، الكثير يؤمنون حتى اللحظة بقدرة الفن على إعطاء الأمل، وبكونه عاملاً أساسياً من عوامل التنمية الوطنية والتمكين الاجتماعي، وبشكل خاص بضرورة الجمال في زمن الظلام، أو بكل بساطة بواجب التخفيف عن آلاف النازحين في مخيمات اللجوء عبر ترفيههم.
من هنا، أدعوكم لتأمل بعض النقاط التي غالباً ما تعود إلى طاولة النقاش ما أن يتم التطرق إلى مسألة التبادل الثقافي في المنطقة الأورو-عربية، على الأقل بين الأجيال الجديدة من العاملين في الحقل الثقافي:
● ماذا الذي تريده أوروبا حقيقةً عندما تقوم بدعم الفن والثقافة في العالم العربي؟ هنا، يبدو من الضروري استعارة بعض الأسئلة المربكة من حقل الدراسات البوستكولونيالية، والمقصود به هنا ليس البوستكولونيالية كوضع مجتمع ما بعد انتهاء حالة الاحتلال، وإنما الاحتلال كحالة دائمة لم ولن تنتهي؛
● مما يقودنا إلى إعادة طرح السؤال حول "نظرية المؤامرة": من يدعم الفن العربي اليوم ولماذا؟ (رأينا ما حدث مؤخراً في مصر على سبيل المثال، حيث اضطرت مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني إلى وضع حد لأنشطتها وذلك بسبب تلقيها دعماً من جهات مانحة أجنبية)؛
● ما هي القاعدة المشتركة التي يجب أن نسعى إليها لتحويل بناء القدرات إلى تجربة مشتركة حقيقية بعيداً عن مفاهيم الوصاية والإشراف؟
● أما عن كيف نوسِّع الشبكات العربية؟ أن لا ننسى بشكل مستمر لاعبين أساسيين على صعيد التبادل الثقافي، أعني بذلك: الدياسبورا - الشتات - الفني العربي، هؤلاء الذي يبقون خارج دائرة النقاش حول العلاقات الثقافية الأورو-عربية. هؤلاء الذي يمكنهم وبكل تأكيد، لعب دور حيوي على صعيد نقل المعرفة والخبرة، وذلك على ضفتي المتوسط.