على وقع استغاثة تدمر، آثار سوريا في مهب الصراع
Jun 2015كانت قد بدأت الأحداث بالتصاعد مع اقتراب زحف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عبر البادية السورية مقترباً من مدينة تدمر الأثرية. قبل ذلك بأيام قليلة سيطر التنظيم على مدينة السخنة أقرب المدن الحيوية من تدمر (60 كم شرق تدمر). ثم ما لبثت أن تواردت الأنباء عن اشتباكات عنيفة بين تنظيم الدولة الإسلامية وقوات النظام السوري قرب مدينة تدمر (بالميرا باللاتينية) الواقعة شرقي سوريا. وعلى وقع تتالي انسحابات جيش النظام وخسائره في الشمال وإدلب ودرعا، بدا للجميع أن وصول داعش إلى تدمر والعبث بأهلها وبآثارها لن يحول دونه حائل، خاصة مع سيطرة داعش على منطقة العامرية شمال غرب المدينة وعلى مستودعات الأسلحة قربها والتي تحتوي على كمية كبيرة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والذخائر، وكذلك على مساكن الضباط وبعض الأحياء الشمالية للمدينة. كل ذلك قبل أن تسقط المدينة نهائياً بيد داعش يوم 21 أيار/ مايو 2015 وسط غارات طيران حربية مستمرة من النظام، وبين هذا وذاك يدفع الأهالي المحليون وآثار المدينة العريقة الثمن باهظاً.
داعش والآثار.. الاستثمار الناجح
داعش على وشك أن تضع يدها على تدمر. كان ذلك كفيلاً باستحضار ذاكرة قريبة لم يتسن الوقت لنسيانها لما فعله التنظيم في أهل وآثار العراق على امتداد العام الماضي حيث يمتلئ موقع يوتيوب على سبيل المثال بعشرات مقاطع الفيديو التي يقدم فيها عناصر من داعش على تحطيم قطع أثرية في الموصل وأماكن أخرى من العراق تحت ذريعة النيل من الوثنية. الأمر الذي كوّن قناعة متينة بأن معابد بعل وبعلشمين ونبو واللات، والشارع الطويل وقوس النصر والحمامات ومجلس الشيوخ في تدمر على موعد مع ذات المصير.
إلا أن واقع الحال يخبرنا أن علاقة داعش مع الآثار ليست علاقة تحطيم وتهشيم بالمطلق، إذ تفيد التقارير أن بيع القطع الأثرية هو أحد أهم مصادر الدخل عند داعش إضافة إلى التبرعات والنفط وطلبات الفدية للمخطوفين. على سبيل المثال ووفقاً لبعض التقارير، وصلت الإيرادات من بيع الآثار المنهوبة من موقع أثري بمدينة النبك، شمال غربي دمشق، إلى حوالي 36 مليون دولار أمريكي. فضلاً عن تقارير عديدة تقول بتوفر قطع أثرية من سوريا والعراق في السوق السوداء في أوروبا. فإذاً تدمّر داعش أمام كاميرات الفيديو الآثار التي لا يمكنها بيعها أو نقلها بينما تحتفظ بالآثار الأخرى وتتاجر بها. هذا ما خلص إليه بعض المراقبون.
المجتمع الدولي يقلق مجدداً..
مع سقوط تدمر بأيدي داعش، أعربت المديرة العامة لمنظمة اليونسكو إيرينا بوكوفا عن قلقها على مصير آثار تدمر من تبعات القتال. فيما دعا الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند العالم إلى التحرك معتبراً سيطرة داعش على مدينة تدمر بمثابة تهديد للآثار التي هي جزء من تراث الانسانية.
وفي وقت سابق من العام الماضي، حاولت السلطات الأوروبية وتجار التحف الفنية التحرك لمنع تهريب الآثار وبيعها لتمويل الجهاديين بعد أعمال التدمير والنهب التي تعرضت لها مواقع أثرية في كل من سوريا والعراق.
بدأت تلك التحركات بعد أن قام مقاتلو داعش بتدمير آثار وقطع فنية في متحف الموصل في العراق، بالإضافة إلى تمثال الثور المجنح الذي يعود إلى حوالي 2700 عام قبل الميلاد. حينها دعت مديرة منظمة الثقافة والفنون (يونسكو) إرينا بوكوفا لعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي. كما دعت إلى إنشاء ما سمته "مناطق ثقافية محمية" حول مواقع التراث في سوريا والعراق. واقترحت المديرة العامة، في افتتاح المؤتمر الدولي المعني بالتهديدات التي يتعرض لها التراث الثقافي في هذين البلدين، الذي انعقد في مقر اليونسكو في باريس يوم 4 كانون الأول/ ديسمبر 2014، أن تنطلق هذه المناطق بدءاً من الجامع الأموي الكبير في مدينة حلب. في ذلك المؤتمر اجتمع نحو 500 من صانعي القرار السياسي وأمناء المتاحف والمكتبات والأكاديميين والخبراء وأقروا مجموعة من التدابير العملية منها تنفيذ اتفاقية حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح لعام 1954، وملحقاتها، وكذلك وضع حد لعدم محاسبة الذي يقومون باعتداءات متعمدة على التراث الثقافي، بحيث تعتبر هذه الاعتداءات جرائم حرب تحت طائلة الملاحقة بموجب لائحة روما للمحكمة الجنائية الدولية. وقد أعرب المشاركون عن دعمهم القوي لاقتراح فرض حظر دولي على تجارة الآثار من سوريا، وذلك تماشياً مع توصية فريق رصد تطبيق العقوبات لصالح مجلس الأمن الدولي، الذي كان مشاركا في المؤتمر.
وقد شهد مطلع العام الحالي قيام الاتحاد الأوروبي ومنظمة اليونيسكو بوضع مشروع "الصون العاجل للتراث السوري" لوقف الخسائر المستمرة التي يتعرض لها التراث الثقافي ولإعداد الأنشطة ذات الأولوية الواجب القيام بها في فترة ما بعد النزاع. وسيُنفذ هذا المشروع المموَّل من الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع اليونسكو وغيرها من الشركاء الاستراتيجيين وبميزانية تقدر بـ 2,46 مليون دولار أمريكي، على أن يتخذ المرصد من مكتب اليونيسكو في بيروت مقراً له وعلى أن يضم إطاراً الكترونياً، وقد انطلق المشروع رسمياً في 1 آذار/ مارس 2014 وسوف يستمر لمدة ثلاث سنوات.
وكان معهد الأمم المتحدة للتدريب والأبحاث قد خلص من خلال صور الأقمار الصناعية المتاحة تجارياً في نهاية عام 2014 إلى أن هناك 24 موقعاً دمرت تماماً و189 موقعاً تضررت بشدة أو بدرجة متوسطة و77 موقعاً ربما تكون تضررت. بينما أدرجت اليونسكو 6 مواقع للتراث العالمي في سوريا على قائمة التراث المهدد بالخطر و10 آلاف موقع أثري سوري مصنفاً في الهواء الطلق، وجميعها مهددة بالخطر.
حملة أنقذوا تدمر.. المجتمع المدني يتحرك
وبينما كانت المعارك تتواصل، أطلق ناشطون حقوقيون وفاعلون ثقافيون حملة عبر وسائط التواصل الاجتماعي باسم Save Palmyra# أنقذوا تدمر. طالبت الحملة المنظمات والمؤسسات المعنية بأن تأخذ موقفاً وإجراءً فعلياً تجاه ما يحصل. وأكدوا على ضرورة تحرك اليونيسكو لتفعيل قرارتها والاتفاقيات المتعلقة بحماية التراث الثقافي. ومن أهمها اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972) ومعاهدة لاهاي (1954) واتفاقية اليونسكو لحظر استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية (1970) وكذلك دور المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص (يونيدروا) في اتفاقية المتعلقة بالممتلكات الثقافية المسروقة أو المصدّرة بطرق غير مشروعة (1995)، وناشدوا المجتمع الدولي أفراداً ومؤسسات للتحرك تجاه ما يحصل بحق السوريين وبحق تراثهم.
وقد توجهت الحملة إلى جمع أكبر عدد ممكن من التواقيع للتوافق على نص البيان الذي جاء فيه: "يحيط بالمدينة عدد من المواقع العسكرية الهامّة، مما يجعل من المدينة مسرحاً للعمليات الحربية. لذلك يجب السعي الى تحييد المدينة وأهلها (50 ألف + نفس العدد من النازحين إليها)، وكذلك أوابدها الأثرية. ونحن إذ ننّوه الى البيان الذي أصدرته السيده إيرينا بوكوفا المدير العام لليونسكو ظهر اليوم من القاهرة إذ قالت "يجب إنقاذ تدمر" فإننا نطالب الحكومات والمجتمع الدولي واليونسكو باتخاذ كافة التدابير الممكنه لتفعيل المواثيق الدوليه المتعلقه بحماية التراث الإنساني ولخلق آليات أكثر فعالية ومنها السياسية لتحييد التراث الإنساني لسوريا عن الصراع وحماية ذلك التراث.
ننوه هنا إلى أن مجلس الأمن في عام ٢٠١٢ نجح في خلق آليات ساهمت وبشكل كبير في تعبئة المجتمع الدولي والمنظمات الدوليه كاليونسكو لحماية التراث الإنساني في مالي ونعتبر أن مدينة تدمر وحرمها الأثري لا تقل أهمية عن "تمبكتو" والتي تضامن المجمتع الدولي لحماية آثارها من التدمير على يد المتطرفين. وعليه نطالب جميع الأطراف بحماية المدينة الأثريّة خاصة من الغارات الجويّة أو من استخدامها كمقرّات عسكرية ومن أي تدمير للإرث الثقافي أو تنقيب ونهب للآثار".
إلى اليوم تجاوز عدد المنضمين إلى صفحة الحملة على موقع فيس بوك 6000 شخص من مختلف أنحاء العالم بينما تجاوز عدد الموقعين على البيان 3000 شخص والعدد في ازدياد.
قوات النظام والآثار.. بين جهود الحماية واتهامات السرقة
"نقل النظام الآثار إلى جهة مجهولة قبل أسبوع من وقوع المدينة بيد داعش". هذا ما ذهبت إليه الكثير من الروايات الشعبية. وهو ما جاء على لسان مدير الآثار والمتاحف، مأمون عبد الكريم، مؤكداً نقل عناصر الجيش النظامي ومليشيات "الدفاع الوطني" لآثار متحف مدينة تدمر إلى مناطق أكثر أمناً.
إلا أن الأهالي وجهوا اتهامات بسرقة وتهريب بعض من هذه الآثار لعناصر الجيش السوري والأمن خاصة بعد حادثة السرقة التي وقعت أواخر العام الماضي لمدفن أرطبان الأثري شرق تدمر الذي تعرض للسرقة والإفراغ من جميع محتوياته. حينها تم اتهام رؤساء الأفرع الأمنية في النظام السوري ببيعها في السوق السوداء على اعتبار أنها كانت تحت حمايتهم، وكان المدفن يحتوي على 22 لوحة أثرية منحوتة بطريقة التماثيل النصفية، إضافة إلى تمثال لرأس طفل، تعرضت جميعها للاختفاء.
وهي ليست المرة الأولى التي تقوم فيها قوات نظامية بتفريغ ونقل محتويات أثرية إلى أماكن مجهولة، ففي عام 2013، ووفقاً لتقرير أعدته المديرية العامة للآثار والمتاحف، أفرغت كافة المتاحف من القطع الأثرية التي غُلّفت ونُقلت إلى أماكن آمنة، كما نُقلت جميع الوثائق التاريخية الهامة إلى مستودعات مخصصة ومؤمنة ضد أخطار السرقة والحرق والرطوبة.
وخلال أمد الأحداث الراهنة في سوريا لم يُعرف عن الجيش السوري أنه كان رحيماً بالآثار، إذ كان يبادر لقصفها حال اشتباهه بتواجد معارضة مسلحة في داخلها، ففي 15 تموز/ يوليو 2013 أصدرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة )ايسيسكو) بياناً صحفياً اتهمت فيه الجيش السوري بتدمير المساجد والآثار الإسلامية في سوريا.
أما جمعية حماية الآثار السورية، ومقرها ستراسبورغ، فقد قدمت تقريراً في العام 2013 ذكرت فيه تعرض اثنا عشر متحفاً سورياً لأضرار مختلفة شملت في أغلب الأحيان حالات القصف والتكسير والسرقة وقد اتهم التقرير السلطات الأثرية السورية والمنظمات الدولية المعنية بالتقاعس لحماية الآثار في سوريا.
الآثار السورية في التشريع الثقافي
يعتبر الاهتمام بالتُّراث والآثار من الجوانب البارزة في السياسة الثقافية السورية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك أن المرسوم التشريعي رقم 88 الصادر بتاريخ 30 حزيران 1947 الذي تأسست من خلاله المديرية العامة للآثار والمتاحف والمتضمن نظام الآثار العامة، سبق بسنوات تأسيس وزارة الثقافة السورية عام 1958. وتعتبر المديرية العامة للآثار والمتاحف (وزارة الثقافة) الجهة الإدارية المسؤولة عن تطبيق القوانين الخاصَّة بالآثار والمتاحف في سورية.
يحكم قانون الآثار الصادر في سوريا في 23 تشرين الأول عام 1963 الأطر القانونية للتُّراث والآثار في سوريا، والذي ألُغي بصدوره المرسوم التشريعي رقم 89 المؤرخ في 30/6/1947 المتعلق بالآثار القديمة.
وتبين المقارنة بين قانون عام 1963 وتعديلاته عام 1999 الإلغاء الكامل لتجارة الآثار التي كانت مقننة في السابق كما حولت معظم العقوبات الجُنَحِيَّة إلى عقوبات جنائية.
وكانت المديرية العامة للآثار والمتاحف قد وجهت كتاباً في الشهر الخامس من عام 2013 إلى وزارة الخارجية، لمطالبة مجلس الأمن الدولي بضرورة التحرك لاستصدار قرار يمنع المتاجرة بالآثار السورية ويقضي باستعادة المسروق منها.