الرقابة تضرب مجدداً في لبنان الفيلم الوثائقي "لي قبور في هذه الأرض" ممنوع من العرض
Jul 2015"لبنان مقسمٌ بصورة غير رسمية إلى مناطق وأقاليم طائفية، يعيش كل مجتمعٍ فيها بخوف من الآخر. بدأ هذا التقسيم منذ الحرب الأهلية واستمر إلى فترة ما بعد الحرب بما سمّي بـ (الحرب المساحية) حيث أدت حركة بيع وشراء الأراضي إلى خلق مزيد من الخوف في كل مجتمع. أجل، لقد اخترت العمل على سرديات النازحين خلال فترة الحرب الأهلية لأننا لا زلنا نحيا عواقبها حتى يومنا هذا". بهذه الكلمات تعلل المخرجة اللبنانية رين متري اختيارها لمضمون فيلمها "لي قبور في هذه الأرض" الذي أنجزته في العام 2014 وكان عرضه الأول في مهرجان دبي السينمائي ثم عرض ضمن "أيام بيروت السينمائية" في آذار المنصرم قبل أن تغلق الرقابة اللبنانية أبواب الصالات السينمائية في وجهه وتحرم متري من موافقة العرض التجارية للفيلم بذريعة "التحريض الطائفي وتهديد السلم الأهلي".
نظرة على تاريخ المنع القريب..
لا تبدو واقعة المنع التي تعرّض لها فيلم متري غريبة أو جديدة في سلسلة المنع التي يحفل بها تاريخ لبنان، كما بقية الدول العربية، تحت ذرائع متعددة تبدأ من خدش الحياء العام حيث منعت الرقابة اللبنانية عرض فيلم لبناني قصير بعنوان "وهبتك المتعة" يتناول زواج المتعة، وفيلماً فرنسياً طويلاً "غريب البحيرة" يتناول المثلية الجنسية، ضمن برنامج الدورة الثالثة عشرة لمهرجان بيروت الدولي للسينما الذي انعقد في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2013.
ثم تمرّ ذرائع المنع بتهمة التطبيع مع إسرائيل، وهنا نذكر قيام وزارة الداخلية اللبنانية بسحب رخصة فيلم "الهجوم" للمخرج زياد دويري ومنعه من العرض في لبنان بتهمة التطبيع مع إسرائيل وذلك بسبب تصوير مشاهد من الفيلم في "إسرائيل".
ولا تنتهي ذرائع المنع في لبنان بإثارة النعرات الطائفية وتقويض السلم الأهلي كما هي الحال في شريط متري، حيث اتخّذ قرار المنع هذا من قبل لجنة الرقابة السينمائيّة "بسبب وطني" بناءً على ما أكده رئيس اللجنة أندره قصاص، الذي أبدى تخّوفه من أنّ هذا الفيلم سيثير النعرات والعصبيات الطائفية التي من شأنها أن تحّرض على التقاتل وتهديد السلم الأهلي، لا سيّما وأنّ البلد يمّر بمرحلة دقيقة وصعبة على حد وصفه.
وتعتبر الرقابة اللبنانية نفسها عصية على الانتقاد، ففي في شهر آب/ أغسطس من العام 2013، منع مكتب الرقابة العرض المسرحي "بتقطع أو ما بتقطع" والذي أنتجته جمعية "مارش" التي تعمل في إطار مكافحة الرقابة على الأعمال الفنية في لبنان. تتناول هذه المسرحية إشكالية عمل مكتب المراقبة في الأمن العام وإشكالية الرقابة بشكل أساسي في إطار كوميدي ساخر.
المنع الشفهي والرقابة الناعمة
في يوم 16 حزيران/ يونيو 2015 اتصل مسؤول الأمن العام هاتفياً بالمخرجة وأبلغها شفيهاً قرار المنع.
ليست المرة الأولى التي لا يترك فيها الرقيب في لبنان وراءه وثيقة تثبت ممارسته الرقابية وتؤرخها، ففي العام 2010، أقدمت الرقابة على منع الفيلم الوثائقي "شو صار؟" مرتين خلال شهر من العرض في بيروت. الفيلم الذي يحمل توقيع المخرج اللبناني ديغول عيد يروي أحداث تجربة شخصية عاشها المخرج خلال الحرب اللبنانية لمجزرة وقعت عام 1980. أيضاً في حالة ديغول كان المنع شفهياً عبر اتصال هاتفي دون أن يتسلم ورقة خطية رسمية.
كتب الصحفي روجيه عوطة في جريدة المدن الالكترونية معلقاً على مسألة الشفهية في المنع: "الأمن العام تكلم ولم يكتب، منع ولم يبرهن، وعندما طالبته المخرجة بدليل خطي، طلب منها الإنتظار حتى تحصل على حقها فيه، كأنه يريد منها، ومعها جميع الفنانين، ألا تسأل عن فعله الإيقافي، بل عن ورقة تفيد به فقط. لقد تقلص حق الفن من المطالبة بإلغاء الرقابة عليه إلى المطالبة بمستند يشير إلى تقريرها رسمياً، ومن المطالبة بإبطال النهي المؤسساتي بصيغته المكتوبة إلى المطالبة بالعدول عن صيغته الملفوظة".
خطوات لوقف المنع وتنديدات واسعة..
إلا أن متري أصرّت على حقها في الحصول على إثبات رسمي لواقعة المنع، فكان لها ما أرادت. في تصريحها الخاص لموقع السياسات الثقافية تقول: "تم التواصل معي من المكتب الإعلامي في الأمن العام وأخبروني أن الورقة باتت جاهزة، لذلك توجهت يوم الإثنين 29 حزيران/ يونيو 2015 لاستلامها، ولكن الورقة التي تحمل عنوان (إفادة تبين منع عرض فيلم سينمائي وثائقي) لم تتضمن ذكراً لأسباب المنع".
تنظر متري إلى حصولها على الورقة الرسمية بوصفها خطوة ضمن سلسلة كاملة من الأفعال التي تنوي القيام بها لإيقاف المنع.
وفقاً لمتري تلخصت المرحلة الأولى بإنجاز أكبر قدر ممكن من التغطية الإعلامية وعلى نطاق واسع وهو ما تراه مفيداً وفعالاً في الخطوات اللاحقة. تشرح متري الخطوط العريضة لخطتها فتقول لموقع السياسات الثقافية: "أنسق حالياً مع المحامي نزار صاغية لاتخاذ إجراء قانوني، كما أقوم بتصميم خطة طويلة الأمد تتضمن إطلاقاً لحملة على المستوى الوطني لإيقاف المنع".
موجة من الانتقادات والاعتراضات تم تسجيلها مؤخراً على قرار الرقيب اللبناني، إذ أدانت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان قيام الأمن العام اللبناني بمنع الفيلم، وقالت الشبكة في بيانها: "نقف مع حق المخرجة رين متري في إجازة عرض الفيلم، فمنع العمل السينمائي الذي يتناول بالتحليل والنقد فترة الحرب الأهلية البغيضة لا يحرض على عنف، ولا يثير النعرات الطائفية، ولكن يبحث في أسباب وجود الطائفية ويحدد بالضبط موطن الداء". وطالبت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الانسان السلطات اللبنانية بالسماح بعرض الفيلم واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير التي نصت عليها العهود والمواثيق الدولية.
الذاكرة ملك السلطة!
فيلم متري ليس الأول على قائمة المنع ولا يبدو أنه سيكون الأخير. فقد بلغ مستوى الرقابة في لبنان، منعاً وقصّاً، مستوى غير مسبوق خلال الأعوام الماضية، خاصة تلك الأعمال الفنية التي أنجزت مقاربتها لفترة الحرب الأهلية، ومنها الفيلم الأول للمخرج سيمون الهبر الذي حمل عنوان "سمعان بالضيعة" والمنجز في عام 2008. حينها اشترط الأمن العام على المخرج اقتطاع بضع دقائق من الفيلم تتناول "الحزب التقدمي الاشتراكي" منعاً لما سماه إثارة للنعرات الطائفية.
في حوارها المنشور مع الصحفي هوفيك حبشيان بتاريخ 16 نيسان/ أبريل 2015 (الفترة التي أمضتها متري في انتظار موافقة الأمن العام على عرض فيلمها) تقول: "لم أشأ أن يشكّل الفيلم إهانة لأحد، فلا بدّ في النهاية أن يطغى الانتماء على كلّ الاحتمالات الفنية". فالحرب، وفقاً لمتري، لم تتوقف بعد، والاستقرار الذين يدّعون أن الفنانين يقوّضونه بأعمالهم الفنية هو استقرار مزيف "ذلك أن الصفحة لم تُطوَ والحرب لم تنتهِ والجميع يشعر بأنّه الضحية، ولأننا لم نصل الى محاسبة الجاني ولا سوقه إلى المحاكمة".
تتخذ حالة منع فيلم "لي قبور في هذه الأرض" بعداً رمزياً في السياق اللبناني، وتكشف واحدة من السمات الهامة لنمط السياسات الثقافية في لبنان. فالفيلم ينبش في ذاكرة الحرب الأهلية وما تلاها وصولاً للحظة الحاضرة. نبشٌ لا يراه الرقيب اللبناني، الذي يمثل نهج السياسة الثقافية، حقّاً فنياً للمخرجة وسواها. فالسلطة في الأنظمة الوصائية هي الوحيدة التي تمتلك حق سرد الذاكرة، ردمها أوالتحفظ عليها بما يضمن استمراريتها. من هنا يأخذ المنع في حالة متري أهميته في فهم العلاقة المتوترة دائماً بين الفن المستقل وبين وسياسة ثقافية تسيّر أو تعطل المشهد الثقافي وتعيد تفصيله على مقاسها.
إن حرية التعبير في لبنان مهددة بصورة جسيمة خلال السنوات الماضية تحت ذريعة الأمن القومي. بهذا تختم متري حديثها لموقع السياسات الثقافية فتقول: "يمتلك لبنان سمعته في مجال حرية التعبير، ولكن واقع الحال يخالف ذلك. فلطالما كانت حرية التعبير في لبنان موضع تهديد عبر التضييق على الناس، وضمناً الفنانين، بطرق مختلفة، سواء عبر استدعائهم المستمر إلى الأجهزة الأمنية أو رفع دعاوى ضدهم في المحاكم. لقد أنشأت الحكومة دائرة أمنية جديدة تدعى (مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية) وهو مكتب مخوّل باستدعاء أي شخص لتوجيه اتهامات له تتعلق حتى بما قد يكتبه الشخص على موقع فيس بوك!".