المؤسسات بحث
دار المأمون
مؤسسة دار المأمون تهدف إلى التنمية الاجتماعية عن طريق الإبداع الفني وتحديدا
المزيد>>
أخبار بحث
  • النشرة الختامية من موقع السياسات الثقافية في المنطقة العربية يُعلن برنامج السياسات الثقافية في... قراءة>>
  • مصر: افتتاح متحف نجيب محفوظ بعد 13 عاماً شهدت القاهرة منتصف شهر تموز/ يوليو 2019... قراءة>>
  • ليبيا: ملتقى دولي حول حماية التراث الثقافي في ليبيا عقدت منظمة اليونسكو يومي 15 و16 تموز/ يوليو... قراءة>>
  • العراق: قبول مشروط لإدراج بابل القديمة على لائحة التراث العالمي بإجماع أعضائها، أدرجت منظمة الأمم... قراءة>>
  • الأردن: 50 ألف كتاب مجاني في المدرج الروماني أطلق الفاعل الثقافي حسين ياسين، مؤسس... قراءة>>
الأعضاء بحث
رغد مارديني
مهندسة مدنية، مديرة ثقافية, دار الاقامة الفنية في عاليه
تخرجت من قسم الهندسه المدنيه في جامعه دمشق بمرتبه امتياز ثم حصلت على دبلوم في
المزيد>>


الدراسات و التقارير-الدراسات والتقارير العامة
بين السياسة الثقافية والواقعين اليومي والسياسي في الشرق الأوسط
Jun 2016

بحث: عاصف الخالدي* 

23 آذار/ مارس 2016 

نُشر هذا البحث على موقع حول السياسات الثقافية في الأردن 

لا بدَ أن أسئلة الثقافة الكبيرة، ومنها السياسات الثقافية في منطقتنا (الشرق الأوسط) هي أسئلة غير مطروحة جدياً. إذ أن هذه الإحاطة الجغرافية والتسمية السياسية مرة أخرى : الشرق الأوسط، تُشَكل حالة سياسية قائمة، بكل تقلباتها وتغيراتها المتكررة والعديدة والتي ترتبط بمفاهيم سياسية طاغية تقوم على فرض التبعية لها على جميع مكونات المنطقة الجغرافية والديموغرافية وكذلك الاقتصادية والثقافية. مما يحيلنا إلى الربط بين الثقافة وسياساتها من جهة، والسياسة نفسها في المنطقة من جهة أخرى، لكننا إن فعلنا ذلك، فإن هذا لا يعني أننا قمنا بتسييس رؤيتنا للسياسات الثقافية وقَصرها على هذه الرؤية فقط.

إن تدفق البيانات الذي يصلنا اليوم، عبر كل وسائل الاتصال والتكنولوجيا، يُعد الأكثر والأضخم نسبة لوعينا الحالي والحاضر، إنه تدفق مستمر لا يتوقف، وإذا حاولنا متابعته وتصنيفه أو الرجوع إلى تفاصيل منه _ علماً أن كل وسائل الاتصال والنشر اليوم تتيح لنا نوعاً من الاطلاع المباشر والتوثيق أحياناً_  فإننا سوف نواجه تلالاً ضخمة من البيانات ولو حتى في مجال واحد كالموسيقى أو الرياضة مثلاً، سنشعر أن كل شيءٍ قابل للسقوط فوق رؤوسنا إن حاولنا التوقف عند لحظة ما محددة !. تكمن الفكرة في وجودنا في المكان المناسب واللحظة المناسبة لتلقي بيانات ما محددة، ولا أقصد بهذا الأحداث الكبرى أو البيانات التي تعتبر متابعةً ومتداولة عالمياً على كل الأصعدة والتي تغذيها وتبرزها الميديا ووسائل الإعلام بشكل كبير وواضح. بل أحداث ما يسمى بالحياة البسيطة، التي تعني بلغة أخرى البطء، البطء في تدفق البيانات ومنح المساحة لتلقيها والتفاعل معها ببطء. إن مفهوم الحياة البسيطة يمكن أن يتضح من خلال المحلية فيما يمكن لمفهوم الحياة المعقدة أن يظهر جلياً في العولمة. لتوضيح علاقة هذا بالحالة الثقافية فإننا يجب أن ننتبه إلى علاقتها بالتكنولوجيا التي تتواجد حيث نوجد اليوم فترافقنا في معظم أوقاتنا حتى لم  نعد نحتمل وجودنا الواعي بمعزل عنها. إذن وفي عقودَ ماضية سبقت ثورة الصوت والصورة، كان العالم أكثرَ بطئاً، وكان يبدأُ منذ اللحظة التي تتجاوز فيها أقدامنا عتبة البيت. كان الفرد يمتلك مساحات أقل للتفاعل ومعطيات جغرافية وافتراضية أقل للحركة إن صح التعبير. بعكس اليوم، فاليوم يمكن لك أن تجلب العالم إلى بيتك، افتراضياً، يمكن للبيانات المطروحة على شبكة الإنترنت أو من خلال شاشات التلفزة العالمية وغيرها من وسائل التواصل أن تقتحم بيتك وتقترب منك بحيث تصير جزءاً من وعيك اليومي. هذه العالمية التي يكتسبها إنسان اليوم في قدرته على الإطلاع على البيانات المتنوعة والخارجة عن إطار بيئته المحلية والديموغرافية أياً كانت مكوناتها ومواكبة الأحداث وغيرها ، تجعله كما يقول الباحثون في إطار العولمة مواطناً عالمياً إن صح التعبير، يقودنا هذا إلى القول بأن حياة الفرد اليومية صارت أقل تأطيراً، إنها حياة متحركة ومتعددة، فعدا عن اندماجه مع مجتمعه المحلي ومتطلباته والحالة أو الحالات الثقافية التي يحتويها هذا المجتمع أياً كانت المقومات الذاتية لهذا الفرد فإنه يتعرض يومياً لتجربة الخوض في ثقافاتٍ أخرى، هذه التجربة التي تبدأ بأشياء ملموسة مثل المنتجات الاستهلاكية المستوردة وتنتهي بقطعة موسيقية أو نص فني أو تحليل لخبر ما في مكان ما من هذا العالم. إذن، الثقافة التي تتدفق في الحياة اليومية هي ثقافة حاضرة، متراكمة بطريقة ما قد نتمكن من إدراكها أو لا. وهي معاصرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وليس هذا أبداً لأنها تعاني قطيعة مع الماضي، بل لأنها متنوعة جداً ومتجددة وبلغت قدرة عالية من التمكن لأن تواكب حياتنا اليومية وتطرح نفسها كمنتج يمكن للأفراد التفاعل معه كمنتجين ومستهلكين والاثنين معاً بالطبع. إن كل هذا سيؤدي بنا إلى النظر إلى السياسات الثقافية ودراساتها بوصفها مواداً تعالج الحاضر والمعاصر أكثر منها مواداً تعتني بالثقافة بصورة تراكمية تعطي الثقافة بعداً تاريخياً ما. لا يمكن للحاضر أن ينفصل كلياً عن الماضي، إننا نتوارث عادة ما منذ زمن قديم، أو حتى طريقة ما في ارتداء الملابس، وندرس التاريخ في مدارسنا وجامعاتنا، رغم أن التاريخ غير واضح البتة، وفي أغلب الأحيان هو انتقائي، وينتمي لكاتبيه والقائلين على لسانه أحياناً أخرى، لكنه وبصحبة الماضي، موجودان بطريقة ما في حياتنا. حياتنا اليومية المتسارعة في هذا العصر، والتي لا تمنح الإنسان الحديث وقتاً كافياً لينظر إلى الوراء، يمكن اختزالها من خلال تضمينها في الثقافة، لكن هذا التضمين لا يعني أبداً ترسيخها أو تقديمها لتظهر مثل كيانٍ ذي قيمة أساسية في وقتنا الحاضر. ولأجل هذا كله فإن السياسات الثقافية لا يمكن أن تنبثق عنها نتائج ثابتة ولا يمكن لها أن تبرز الحاضر المتحرك في لحظة ما وتعمل على تثبيته في تلك اللحظة، بقدر ما يتوجب عليها رصد الحاضر من خلال الحالة الثقافية التي تكون فيه، والعمل على تكثيفها حتى تتمكن من رسم صورة ما (أولية ربما) للمستقبل الثقافي، وحيث أن المستقبل يصير حاضراً بمجرد وصولنا إليه، فإن السياسات الثقافية تملك قراءات في الحاضر ومحاولات للتتبع وتوجيه عمل مؤسسات رسمية أو خاصة وأفراد سواء كانوا منتجين أو مستهلكين بحيث تتقدم الحالة الثقافية إلى حاضر ثقافيٍ أكثر متانة وتنوعاً بوصفه مركزاً من مراكز القوى البشرية التي لا تخضع لسلطة ما غير قدرتها على التغير الدائم والتطور كمؤشر على تطور وتقدم الفرد والإنسان نفسه. لا يجب أن يقودنا هذا برأيي إلى النظر للسياسات الثقافية على أنها مادة نظرية قائمة على المحاولات واستشراف مستقبل الثقافة فقط، إنها تستقي رؤاها وتجاربها من الواقع الثقافي نفسه، وهي مهمة فعلاً على الرغم من الإهمال الذي تتعرض له في المنطقة، إذ أن الأولويات في اتخاذ الكثير من القرارات الثقافية المهمة على المستويات الرسمية، تعود غالباً إلى عوامل سياسية واقتصادية أو إلى مصالح أفراد محددين، ولا تعود أو تتأثر بشكل ولو غير مباشر برؤية السياسات الثقافية أو حتى بخطط عميقة تستهدف البنية التحتية للمجتمع.

اتصف تاريخ المنطقة بصراعات متفاوتة، بين قوتها وقدرتها على الجذب أحياناً، فيما كانت صراعاتٍ جانبية في أحيان أخرى، هذه الصراعات التي كانت في الغالب سياسية أو طائفية، لم تغب عن جغرافيات المنطقة منذ نشأتها بهذا الشكل، ويمكن الجزم بأن هذه الصراعات ساهمت بصعود قوى سياسية واجتماعية وثقافية وانكماش أخرى على مدار ستين عاماً متتالية على الأقل، وكانت لها القدرة الكافية لأن تأثر في التركيبات الإجتماعية وثقافاتها طوال هذه المدة. يمكن بسهولة ملاحظة الجماعات الطائفية في المنطقة، والتي وخلال أعوام طويلة بقيت ثابتة مقابل هذه المتغيرات، لم يعمل أحد سواء على المستويين الرسمي أو المدني على الإشارة إليها بشكل واضح إلا من خلال قنوات مناسباتية وشكلية. ولطالما كانت الإشارات تركز على نماذج التعايش وتقبل الآخر وما سواه من أفكار يتم طرحها ضمن نسيج المجتمع الواحد، وتنبثق كلها من باب الإقرار بوجود اختلافات وخلافات على مضامين (دينية وعرقية غالباً) لا يمثلها المجتمع الحديث بالأصل بقدر ما يمثلها الانقسام وإقصاء الآخر. ومن هنا فإن السؤال المطروح أمام الدراسات الثقافية بصفتها دراسات تتفاعل مع المعاصر واليومي في المنطقة يتمثل بقدرتها على تضمين هذا المشهد ضمن أوراقها ورؤاها، مركزة على تأثيره على البنية الثقافية للمجتمع وأفراده، وتقصي أثره على الحالة الثقافية والتلقي الثقافي في الوقت الحالي دون التركيز على جذوره التاريخية والتي ليست سبباً أساسياً في استمراره.

 إن الخلاصة تكمن في أن السياسات الثقافية تحتاج لامتلاك مرونة تمكنها من احتواء الحالة الثقافية المطروحة يومياً بكل مفرداتها، وبكل المؤثرات الواقعة عليها من قبل الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والمجتمع، بشكل يومي، لتجد لها خطة ما تمكنها من المواكبة والاستمرار وإحداث الفرق على الساحة الثقافية المحلية بشكل مبدأي وعلى المحيط بشكل عام.

ترتبط الثقافة رسمياً في المنطقة بمؤسسات رسمية تمثلها في كل بلد، وإن انطلقنا لنرى التشريعات التي تحكم الأنشطة الثقافية التي تمارسها هذه المؤسسات كوزارات الثقافة والتعليم والشباب مثلاً، فسنرى بأنها وعلى الأغلب تشريعات تقوم بترسيخ صورٍ شبه ثابتة لمنطلقات الثقافة في المنطقة من ناحية اللغة والدين والعادات التراثية المنتشرة. في الواقع، تبدو علاقة المؤسسات الرسمية عموماً مع الثقافة علاقة تقييدية، مرهونة بشروط مسبقة، إذ أن تمثيل التراث واللغة والدين يعتبرون جميعاً من مكونات الثقافة لأي حضارة، لكنهم ومن ناحية أخرى لا يمثلون شرطاً يجب تحققه في الحالة الثقافية وأنشطتها المعاصرة حتى يتم إعطائها الصلاحية كمنتج اجتماعي أو إنساني. ورغم ملاحظتنا اليوم لتواجد نشاطات فردية ومدنية ثقافية، متعددة ومتنوعة، لا تشترط إطاراً مسبقاً لما تطرحه على متلقيها، إلا أن الأنشطة التي يجب أن تكون ذات بعد عام ومعلناً عنها للجميع، وبدعم حكومي أو رسمي إن شئنا، هي غالباً أنشطة ذات طابع مؤطر، غالباً ما يكون ممنهجاً بنكهة سياسية تمثل الرؤية الرسمية للشكل الثقافي الذي يجب أن يسود، وغالباً ما تأتي هذه الأنشطة على شكل احتفالات تراثية أو مرافقة لأحداث عامة كبرى كالأعياد الوطنية ومناسبات أخرى. في المقابل فإن دعم المؤسسات المدنية مادياً وفنياً من قبل المؤسسات الرسمية يبدو ضئيلاً ( تخصص وزارة الثقافة الأردنية مثلا ميزانيات ضئيلة لمؤسسات تابعة لها أو تواكبها كرابطة الفنانين والكتاب وغيرهما) كما أن دعم النشاطات الفردية يتعرض لذات المشاكل كذلك، سواء كان الفرد يحمل منتجاً ثقافياً أو مشروعاً عاماً، فإن الدعم لا يتعدى تقديم خدمات لوجستية محددة في أفضل الأحيان. إن هذا الطرح لا يعني تقويض دور المؤسسات الرسمية ونقدها بصورة سلبية، فمن التجربة التي نتتبع من خلالها دور هذه الوزارة في الأردن مثلاً وفي أي بلد آخر من بلاد المنطقة ( سوريا، لبنان، وفلسطين) فإن ما يعني دراسات السياسات الثقافية هو إلقاء نظرة فاحصة على مركزية المؤسسات الرسمية، وعلاقة هذه المركزية بالحالة الثقافية القائمة، إن تصدر هذه المؤسسات للمشهد الثقافي وربطه بمركزيتها، يعني أننا وفي حال عدم وجود مراكز قوى ثقافية أخرى، اجتماعية ومدنية، ذات تأثير قوي معادل، فإننا مضطرون كدارسين، للتركيز على نقاط ضعف هذه المؤسسات الرسمية والبحث في إمكانيات تحفيزها لتطرح برامج وخطط لسياسات ثقافية أوضح، تكون أكثر معاصرة وتفاعلية وتنوعاً، بل وأكثر تمثيلاً للمستقبل، دون تمكين أي مكونٍ اجتماعي وثقافي وديموغرافي على حساب مكونٍ آخر، ودون اعتماد رؤية سياسية ( بحكم انتمائها الطبيعي للسلطة الدستورية والحكومية)، لتقييم الحالة الثقافية وطرح منتجات ثقافية ما على حساب أخرى. إن أكبر الأمثلة على ما قيل هنا، هو تلك الحقبة من عقد السبعينيات من القرن الماضي، والتي تم فيها تبني عناصر ثقافية محددة، تمثل كل منها أيديولوجيا تخالف الأخرى من خلال تقييم العلاقات والأفعال الثقافية وفقاً لرؤى حزبية، تعاديها ربما،  ولم يخدم هذا التنوع، بقدر ما أحدث حالة من التطرف الثقافي إن صح التعبير، إذ أصبحت مجرد قراءة كتاب معين، أو سماع نوع ما من الموسيقى، أو الحديث من وجهة نظر دينية أو فلسفية معينة، يصنف صاحبه في إطار مغلق ومحدد، ولا يطلق عليه أي حكم ثقافي، بقدر ما يتم إعدامه ثقافياً، والنظر إليه سياسياً، كنقيض أو حتى عدو في بعض الأحيان. يمكن القول بأن تلك المرحلة لم تزل تلقي بظلالها على الحالة الثقافية حتى اليوم، ولكن بأشكال أقل حدة. ما يمكن استخلاصه من حالات منع سياسية وأمنية في أغلب الأحيان يقودنا مرة أخرى إلى أن انتماء المؤسسات الرسمية في المنطقة هو انتماء لكونها تقع ضمن منظومة السلطة السياسية وتعتمد على مركزيتها الحكومية بشكل أكبر بكثير من اعتمادها على سياسات ثقافية عادلة تعطي الفرصة لتوسيع المشهد الثقافي وإعطاء المنتج الثقافي فرصة ليختبر أثره في العلن على المديينِ القريب والبعيد. بالطبع لا يجعلنا هذا نغفل أن السياسات الثقافية غير معنية بفرض أي رأي مسبق يساهم في تأجيج أي صراع، بمعنى آخر، الصراع الفكري والسياسي الذي يمكن أن يطرح من خلال الثقافة، هو ربما صراع مشروع وطبيعي بين البشر، خاصة إذا قورن بصراعات الحرب والعنف التي تعصف بالمنطقة في وقتنا الحالي. يمكننا أن نستنتج من كل هذا أن السياسات الثقافية لا تغطي أي نوع من الصراعات الهدامة تحت غطاء الثقافة، ولا يمكن الاعتبار وبشكل مسبق بأن أي فكرة تطرح من خلال الثقافة يمكن أن تتحول لفعل هادم على مستوى الواقع بشكل عام.

من المعروف أن التواصل اليومي مع العالم كله ومع ما ينتَج من ثقافة محليا وعالمياً  كذلك التواصل من خلال الانترنت وجميع أنواع شبكات التواصل الاجتماعي قلل من أي دور رقابي أو إقصائي لأي مؤسسة رسمية أو غير رسمية وبالتالي فإن قيام هذه المؤسسات بتبني خططٍ واضحة وتفاعلية للسياسات الثقافية تدعم من خلالها الحالة الثقافية دون تمييز يعطيها دوراً أكثر إيجابية وقدرة على المساهمة والتطوير، بل والتوجيه الذي تأمله في أغلب الأحيان.

في الواقع ،لا يمكن تبني الثقافة من خلال قرار سياسي وربط المشهد الثقافي المطروح بها. بالمقابل ورغم رؤيتنا الواضحة للمدى الكبير الذي تتأثر فيه الحالة الثقافية ومنتجاتها على مستويات فردية وجماعية وفقاً لنتائج الأحداث السياسية الكبرى، كالحرب في سوريا مثلا وما نتج عنها من كوارث ديموغرافية وجغرافية، إضافة إلى الاحتلال في فلسطين ومشاكل الطائفية في لبنان وإلخ، إلا أن ما نتج عن هذه الأحداث من ردود فعل ثقافية آنية أو مستمرة لمدى غير معروف، لم تسهم فيه مؤسسات ووزارات الثقافة الرسمية بشكل واضح، سواء بالدعم المادي أو بالمبادرة للمشاركة. وهذا يترك السؤال مفتوحاً، عن دورها في المجتمع المحلي والإقليمي، الآن ومستقبلاً،  وعن مدى فاعليته وقدرته على استيعاب متغيرات الثقافة اليومية المتعلقة بكل شيء سواء بأحداث سياسية أو جغرافية وديموغرافية وإلخ، من خلال سياسات ثقافية مرنة.

تهدف السياسات الثقافية في أحد جوانبها إلى المساهمة في الثقافة الجماعية، والتوفيق بين رؤية ثقافية رفيعة المستوى والثقافة الشعبية اليومية التي باتت تتأثر بكل ما يتدفق من منتجات استهلاكية، سياسية وتكنولوجية وثقافية محلياً وعالمياً. يتم ذلك من خلال تضمين دراسات السياسات الثقافية لنظرة عميقة إلى أنظمة وبرامج التعليم القائمة، وهي أنظمة تتسم بالثبات والقبوع بشكل عام ولا تفسح المجال لتكون البرامج التعليمية برامجاً منتجة، بقدر تلقينيتها التي لم تعد محل جدال في القرن الحادي والعشرين. إذ تفتقر هذه المناهج إلى مواد تعتني بالثقافة بوصفها طريقة للتعامل مع جميع مفردات الحياة، يمكن لها أن تقدم الاحتمالات والخيارات الثقافية للجميع، في جملة من التعريفات، عن كل شيء. تفوق إطار المنهاج الدراسي. الذي صارت مخرجاته ترتكز في أغلب دول منطقة الشرق الاوسط على تحصيل علامة دراسية عالية، حتى يتمكن الطلاب من تحصيل شهادات أعلى في المستقبل، دون الالتفات إلى الثقافة الذاتية للطلاب كأفراد، والتي ستمكنهم في المستقبل من التعامل مع الحياة ومفرداتها بصورة أكثر ثقافية وإنتاجية وقدرة على التأقلم وتقبل التنوع. إن المناهج التي لم تركز سوى على ما هو قائم منذ سنين، من ناحية تكرارها لقواعد معينة، وتكريسها لرؤية الحياة والعالم من زوايا مسبقة ومحددة. بحيث يتحول الطلاب والأفراد إلى مجموعات متناسخة مع مرور الوقت، وإلى كائنات تنظر للعالم نظرة ثابتة، غير معنية برؤية أي جديد. هذه النظرة التي ساهم فيها التوارث الاجتماعي والقبلي والطائفي، من خلال الدين غالباً، والتي لم تتكلف المناهج وبرامج التعليم في الشرق الأوسط شأن مواجهتها بجدية حتى اليوم، وذلك بسبب تحويل أي مواجهة إلى صراع وجودي عنيف، يجر فيه طرف ما الآخر إلى احتمالات الإقصاء أو الوجود المطلق!!. عزز وجود أنظمة تعليمية همها فقط تدريس مواد علمية ودينية أساسية بنظام يقوم على النجاح والرسوب من حيث لغة الأرقام فقط.  لذا فإن الدراسات الحديثة للسياسات الثقافية يجب أن تركز على إشراك نظم التعليم ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية في رؤاها حول هذه المشكلات وسبل تجاوزها بأساليب تدريجية. لا يمكننا أن نغفل اليوم عن أن الثقافة صارت ملحقة بكل شيء وأن انفتاحنا على العالم لا بد أن يعزز قيم التبادل والتفاعل الثقافي. إن التعليم المفتوح المطروح اليوم من قبل وسائل الاتصالات والإنترنت والمبادرات الثقافية الملحقة بالتعليم والمدارس والجامعات، من شأنها أن تعمل جميعاً على تغيير هذه الحالة بشكل عام .

يبقى أن نقول في النهاية،إن هذه مجرد قراءة بسيطة، كان من الممكن تعزيزها بأمثلة وشهادات وأرقام، لولا أن قراءات كثيرة في نفس المجال اعتنت بذلك فيما سبق، يمكن لها أن تعزز هذه القراءة المختزلة في شأن السياسات الثقافية والثقافة في منطقة الشرق الأوسط. اليوم ونحن نواجه الحرب الكبيرة في سوريا، وأزمة الاجئين السوريين التي صارت أزمة مزمنة. كما نشهد وبغض النظر عن أي رؤية سياسية بحتة، التفكك في جغرافية سوريا وديموغرافيتها، وكذلك الأزمة الاقتصادية والطائفية والديموغرافية التي تشهدها هذه المنطقة. وبالنظر إلى هذا كله كنتائج حالية. يمكن لنا أن نقول بالفعل بأن ما ينبثق اليوم من حالة ثقافية ونشاطات ثقافية تأثرت بكل هذه النتائج، لا يعني الشيء الكثير، إن لم يقارن بعامل الزمن، أعني الاستمرارية، بمعنى آخر إن لم يكن متراكماً. أظن أن السياسات الثقافية يعنيها كأساس، أن تلعب دوراً كبيراً في عملية التغيير تجاه واقع ثقافي أفضل، في كل النواحي التي تمسها الثقافة أو العكس. وهذا بالطبع يعني تطوراً على صعد أخرى، كتطوير العلاقات بين الذات ونفسها، وبين الأفراد والمجتمع، وبين المجتمع والعالم. وبعيداً عن الشبهة الاستعمارية ونظرية المؤامرة التي يقال بشكل متكرر بأنها تدفع الناس للهروب إلى الماضي. نحن نتطلع إلى سياسات ثقافية وإلى ثقافة معاصرة يومية ومنتجة. تجعل الاندماج مع العالم أكثر عمقاً وقيمة. دون تصنيف لأي طرف، بمعنى أننا كلنا العالم. لا أحد منا في جزء أوسط أو غربي أو مركزي. ولنقل وبطريقة أخرى: لا بد للسياسات الثقافية من استيعاب كل شيء في البداية، ومن ثم يمكن لكل شيء استيعابها. فهي تتطلع لعملية تغيير تبدأ من القاع. من حيث الخلاف والتشظي والرفض والسلطوية المركزية والسياسية. منطلقة تجاه أفق أوسع. يضم كل البشر دون هويات أو تصنيفات، فالسياسات الثقافية معنية فقط بالتعريفات أو محاولات التعريف والتفاعل، وليست معنية أبداً بالمسلمات. شأنها شأن الثقافة. التي تتعرض ومنذ زمن ليس بقصير، إلى الاستلاب الطائفي والسياسي والديني في منطقتنا. أظن أننا بأمس الحاجة اليوم، إلى إلحاق الثقافة وسياساتها بأولويات حياتنا، كمؤسسات وأفراد.

مصادر ومراجع:
الثقافة والتعليم بين الجمود والتغيير، الدكتور كمال حماد مغيث، القاهرة 2005
الأمة والدين في الشرق الأوسط،  فريد هاليداي، دار الساقي
الأحزاب السياسية الأردنية، نشأة وتطور، دراسة عماد أبو وندي. موقع الحوار المتمدن
العولمة الثقافية، جيرار لكليرك
مدخل إلى السياسات الثقافية في العالم العربي، المورد الثقافي 2010
أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، د خالد الصمدي، دار الفكر 2013
Cultural Studies, Simon During, UK 2005
Robert Fisk, Pity the Nation: Lebanon at War. London: Oxford University Press, 3rd ed. 2001

عاصف الخالدي هو روائي وكاتب أردني.
asefkhaldi1983@gmail.com


أضف بريدك هنا لتصلك نشرتنا البريدية.