الفن تحت وطاة الصراع.. بقلم بسمة الحسيني
Mar 2018القسم الثالث من مقال "حال الفنون - قضايا راهنة في الإبداع الفني والأدبي في المنطقة العربية” المنشور في موقع "جدلية" بتاريخ 15 فبراير / شباط 2018
بسمة الحسيني – ديسمبر/كانون الأول 2017
ستة أعوام تقريباً من الصراع المسلح في سوريا وليبيا، وأكثر من عامين مثلهما في اليمن، خلّفت وراءها، وما زالت تخلّف، مئات الآلاف من القتلى والمصابين، وملايين النازحين واللاجئين، وتدميراً يصعب حصره وإدراكه للقرى والمدن والبيوت والمدارس والمستشفيات، بل و التراث العمراني القديم والصروح الأثرية التي صمدت لآلاف السنين. سبق هذا كله، استمرار الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وتصاعد القمع والتنكيل بالشعب الفلسطيني في أعقاب الانتفاضة الثانية في 2003، والذي بلغ ذروة غير مسبوقة في الحرب على غزة في 2008، واستمرار الاحتلال الأمريكي للعراق والصراعات المسلحة التي صحبته، والتي أفرخت أكثر التنظيمات الاسلامية المسلحة شراسة وتطرفاً حتى الآن: داعش. التفاصيل السياسية والعسكرية للصراعات في المنطقة أكبر وأعقد من أن يحتويها هذا المقال، ولكن ما يعنينا منها هو تأثيرها على الإبداع والانتاج الفني والثقافي في المنطقة. سأحاول في سطور قليلة رصد هذا التأثير بجوانبه المختلفة، ولو أن هناك تأثيرات أعمق وأقل مباشرة لن تظهر إلا بعد فترة طويلة، إذ لا يمكن فصل حال الفنون والإبداع عن أحوال الناس المعنوية والمادية.
ليس هناك حصر مؤثق لعدد الفنانين والكتّاب والمدراء الثقافيين والمنتجين والناشرين السوريين الذين تركوا سوريا خلال الأعوام من 2011 إلى 2016، ولكن يمكن تقدير نسبتهم بشكل جزافي بما لا يقل عن 50% من عددهم داخل سوريا قبل قيام الثورة السورية. يشهد على هذا العدد الكبير من المسرحيات والأفلام والمطبوعات والحفلات الموسيقية السورية التي تنتج في ألمانيا وفرنسا وتركيا على سبيل المثال، وكثير منها حاضر في أهم المهرجانات والفعاليات الدولية.
"تسبب الوضع الأمني والسياسي المتدهور في سوريا في انتهاكات صارخة للحقوق الثقافية. إذ ما يزال النظام السوري يمارس الاعتقال بحق الفنانين والكتاب المعارضين كزكي ومهيار كورديللو والفنانة سمر كوكش والكاتب عدنان الزراعي وآحرين. فيما تحيل النقابات الفنية الفنانيين المعارضين إلى محاكم تأديب ومحكمة إرهاب حتى وإن كانوا خارج البلاد عقاباً لهم على مواقفهم. إذ أصدرت نقابة الفنانين السوريين بلاغاً يقضي بتحويل عدد من منتسبيها المعارضين إلى “مجلس تأديب”، وذلك بسبب “عدم مبادرتهم لتسديد التزاماتهم النقابية”، رغم أن أغلب الذين وردت اسماؤهم في البلاغ مقيمين خارج البلاد، وعليهم أحكام بالسجن صادرة عن “محكمة الإرهاب” التي أحدثها النظام بعد اندلاع الثورة السورية. ومنهم جمال سليمان وعبد الحكيم قطيفان ومي سكاف ومكسيم خليل ولويز عبد الكريم وسميح شقير ومازن الناطور لمعارضتهم النظام."[1]
لم تقتصر هجرة الفنانين، ولجوئهم في أحيان كثيرة، على الفنانين المعروفين بمعارضتهم للنظام، وانما اتسعت هذه الهجرة لتشمل فنانين ليست لهم مواقف ولا أنشطة سياسية معروفة. قد يكون السبب في ذلك هو اتساع نطاق التدمير والتنكيل الذي مارسه النظام، مما دفع بكثير من الفنانين المحايدين سياسياً إلى أن يحرصوا على ألا يتماهوا معه بأي شكل كان، وقد يكون السبب هو الصعوبة المتزايدة في العمل داخل سوريا نتيجة الضغوط الأمنية والرقابة المتزايدة والأزمة الاقتصادية الطاحنة. لا شك أيضاً أن الخوف من اتساع سيطرة تنظيم داعش على بعض مناطق سوريا أدى إلى هجرة الفنانين الذين كانوا يعيشون في هذه المناطق.
يبدو تأثير هجرة الفنانين السوريين واضحاً على الحياة الثقافية في مدينة دمشق إذ تناقصت عدد الانتاجات المسرحية والسينمائية ومعارض الفن التشكيلي، وحتى الحفلات الموسيقية التي اقتصرت معظم الوقت على دار الأسد ومواقع ثقافية حكومية قليلة، وغابت علامات هامة مثل فعاليات موسيقى على الطريق التي كانت تنظمها جمعية صدى، ومسرح تياترو الذي كانت تديره مي سكاف، ومهرجان دوكس بوكس للسينما الوثائقية الذي كان يديره عروة نيربية، وكلاهما أصبح يعيش في أوروبا بعد الاعتقال والتهديد من قبل السلطات السورية. كذلك أدى تدهور الوضع الأمني وزيادة حواجز التفتيش العسكرية، والأزمة الاقتصادية إلى عزوف الناس عن التردد على الفعاليات الثقافية. أما خارج مدينة دمشق، فالوضع أسوأ بكثير، حيث دمر عدد كبير من المواقع الفنية في مدينة حلب التي كانت مسرحاً لحرب عنيفة بين قوات النظام وحلفائه وبين فصائل المعارضة، ونفس الشيء بدرجة أقل في حمص وحماة، وما يحيط بهذه المدن من بلدات صغيرة كان بعضها يحوي دوراً للثقافة ومسارح صغيرة.
التغيير الأكبر تاثيراً ربما يكون في هجرة جزء كبير من الجمهور إلى عدة بلدان، إذ زاد عدد النازحين السوريين عن ستة ملايين نازح، منهم 4.8 مليون طالب لجوء[2]. يتوزع معظم هؤلاء بين دول الجوار: لبنان، والأردن، وتركيا، ثم بأعداد أقل في أوروبا، في ألمانيا على الأخص، ثم كندا والولايات المتحدة. يعيش معظم هؤلاء في مجتمعات صغيرة خارج أو على أطراف المدن، وتتفاوت ظروفهم الحياتية تفاوتاً كبيراً بحسب سياسات البلد المضيف وقدراته الاقتصادية والإدارية. ربما يكون من المبكر التأمل في تأثير نشوء هذه المجتمعات الصغيرة المهاجرة وبقاءها خلال الأعوام القليلة الماضية، ولكن أحد الجوانب الواضحة لهذا التأثير هو انعزالها التام عن الخدمات والأنشطة الثقافية والفنية، سواء تلك التي يحتويها البلد المضيف، أو تلك الطارئة التي قد يقوم بها فنانون سوريون مهاجرون. في ألمانيا مثلاً، حيث أصبح يقيم عدد كبير من الفنانين السوريين، نجد أن معظم انتاجهم الفني موجه أساساً إلى الجمهور الألماني، ولا يصل إلا نادراً إلى مجتمعات اللاجئين السوريين في ألمانيا. هناك أعمال قليلة موجهة إلى هؤلاء اللاجئين، ولكنها عادة تكون من انتاج فنانين ألمان، وعليها غالباً صفة "الفن المجتمعي" وبالتالي تصنف على أنها أقل فنياً، وتحمل رسائل اجتماعية وظيفية مباشرة.
في اليمن، حيث كان هناك عدد كبير من الجمعيات الأهلية الثقافية الناشطة حتى 2014، وحيث حمل الربيع العربي معه وعداً بتيارات ثقافية وفنية جديدة في بيئة محافظة، مثل موسيقى الراب والهيب هوب، وعروض السينما غير التجارية، وفنون الشارع، تبخر هذا الوعد في فترة وجيزة تحت وطأة الحرب بين قوات التحالف العربي وبين قوات الحوثيين. توقفت معظم الجمعيات الثقافية أو جمدت نشاطها مثل مؤسسة العفيف ومؤسسة النعمان ومؤسسة ابحار للطفولة والإبداع ومؤسسة صوت التنمية[3]، كما اضطر الكثير من الفنانين ومديري المؤسسات الثقافية إلى الهرب من اليمن بسبب التهديد المباشر من قبل قوات الحوثيين واقتحام مقار بعض المؤسسات وتدميرها. في نفس الوقت دمرت قوات التحالف العربي جزءاً من المدينة الأثرية في صنعاء، المسجلة ضمن التراث الثقافي الإنساني لدى منظمة اليونسكو، مع أن هذه القوات تضم بلداناً أعضاء في المنظمة وموقعة على الاتفاقيات الخاصة بحماية هذا التراث مثل الأردن ومصر والمغرب.
من ناحية أخرى، تعاني الجمعيات الثقافية القليلة الباقية في اليمن، أو تلك التي تحاول العمل هناك من خارجه، من صعوبات جمة في العثور على تمويل، إذا دفع بالثقافة إلى ذيل الأولويات الحكومية في ظل الحرب، والأعمال القليلة التي تموّل هي أعمال دعائية سياسية في المقام الأول. ولا تولي الهيئات الدولية المانحة اهتماماً كبيراً بالعمل الثقافي في اليمن، ولا بدعم الفنانين اليمنيين الذين اضطروا إلى الهجرة من اليمن إلى أوروبا او إلى بعض الدول العربية. نتج عن هذا كله اضمحلال سريع في الناتج الثقافي اليمني، يبشر بساحة مفتوحة أمام الأفكار الدينية المتشددة التي تحرّم الفن، وتجرّم الفنانين.
الوضع في ليبيا قريب من اليمن، مع فارق هو قلة عدد الجمعيات والمبادرات الثقافية الأهلية قبل بداية الصراع المسلح، ومعظمها بدأ نشاطه في عام 2011. مع ذلك، شهد العامان التاليان تسارعاً في وتيرة الانتاج الفني والأنشطة الثقافية، ونشطت مؤسسات تعمل بروح جديدة مثل مؤسسات أريتي وتنوير وورق. ولكن الوضع الأمني، بالإضافة إلى حوادث اغتيال وخطف واعتقال بعض الناشطين الثقافيين مثل انتصار الحصائري وأحمد زورا وجابر زين، أدى إلى تقلص أنشطة هذه المؤسسات وهجرة عدد كبير ممن يعملون فيها. يصف أحمد البخاري مدير حركة تنوير الوضع في ليبيا: "النشاطات الثقافية والفنية كانت تحرّكها في ليبيا عجلة "الأمل"، التي تجعل الفاعلين الثقافيين والفنانيين يقومون بالعديد من الجهد لإقامة النشاطات والفعاليات الفنية والثقافية، وحين ساد الإحباط بعد الضربات الموجعة للمشهد، وإنحصار الحريات بعد إنتشار السلاح، وعزوف المتلقي عن النشاطات الثقافية التي أصبحت تمثل له رفاهية في ظل الأولويات التي أصبحت الوقوف لساعات طويلة أمام المصارف لسحب النقود في ظل أزمة السيولة أو إنقطاع الكهرباء المتواصل، أو الوضع السياسي المتوتر والبائس، وإزدياد التعصب والترصد في ظل الحرب، وإنحسار الأمان في ظل الفوضى التي لم تعد تسمح بالقيام بأي فعاليات في أوقات متأخرة، أو تجول الفتيات بشكل دائم، كل هذه العوامل أثرت في المؤسسات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني التي تدعم وتمارس الفنون، كما أن معظم السفارات الأوروبية والمانحة خرجت من البلاد، وأصبح التواصل صعب للتمويل والمشاركة وتقديم الدعم، وأصبح القيام بأي نشاطات أو فعاليات محفوف بالمخاطر، خاصة المناشط التي لها طابع حقوقي وليبرالي حر"[4].
لا يختلف الوضع في العراق كثيراً، مع اضافة بضعة سنوات إلى عمر التدمير والتشرذم الذي أصاب الحياة الثقافية، والذي اشتدت حدته بدءاً من عام 2006 مع موجات العنف الطائفي التي تلت الإحتلال الأمريكي. تقطعت أوصال الحياة الثقافية بين المدن العراقية، فأصبح ما يحدث في البصرة لا علاقة له بمثقفي وفناني بغداد، وأدى انعدام الأمن، والوتيرة المتلاحقة للأعمال الإرهابية وتدهور البنية التحتية إلى صعوبة التنقل وتنظيم فعاليات ومشاريع ثقافية على المستوى الوطني، فضلاً عن احتلال داعش لمدينة الموصل، والانفصال الجزئي لإقليم كردستان، والذي على الرغم من استحقاقه سياسياً، إلا أنه أثرّ سلباً على المشهد الثقافي في كردستان، وفي العراق عموماً. تأثرت الحياة الثقافية كذلك بالانقسام الطائفي، وبالتوتر السياسي المستمر، وتحزب المسؤولين والفنانين على حد سواء، ومؤخراً بسياسات التقشف الاقتصادي التي حتّمها انخفاض أسعار البترول، والإنفاق العسكري والأمني المتضخم. أدى كل هذا إلى ضمور شديد في المشهد الثقافي العراقي، وكما يقول الشاعر حسام السراي: "واحدة من مشكلات الثقافة العراقية إنها تفتقر إلى التراكم، فما أن تنشأ مؤسّسة لدعم الفنون وانتاجها، حتّى تغيب أو تختفي بتشتّت أعضائها، أين هو غاليري "أكد" الذي عاد إلى المشهد بعد 2003، ثم توقف عن العمل العام 2014، وهو مثال من أمثلة كثيرة".
في البلدان الأربعة التي مازالت تشهد صراعاً عسكرياً مفتوحاً، نال البنية التحتية المدنية نصيب واسع من التدمير، فهدمت مدارس وكليات جامعية ومواقع أثرية ودوراً للثقافة ومسارح وسينمات. هناك خططاً أعدت بالفعل لإعادة إعمار سوريا، ويقال لأجزاء من العراق، ولكن لا يوجد أي اشارة لذلك بالنسبة لليبيا واليمن، حيث مازال الصراع على السلطة بعيداً عن الحسم. لا توجد معلومات متاحة عن تضمن خطط اعادة إعمار سوريا – على سبيل المثال - لمكونات لها علاقة بالانتاج الثقافي والفني، ولكن التغيير الديموجرافي الذي حدث ويحدث لمناطق عديدة في هذا البلد، اضافة إلى أن عمليات إعادة الإعمار ستتم غالباً عن طريق شركات اقليمية أو دولية ضخمة، وبدون مشاركة شعبية، يهددان بأن يأتي هذا "الإعمار" خالياً من الحياة الثقافية الطبيعية القائمة على حيوية وتنوع المجتمع.
على مستوى آخر، يعاني تعليم الفنون، سواء على مستوى التعليم الأساسي أو المتوسط أو الجامعي، في البلدان الأربعة من ضعف متزايد نتيجة لهجرة الأساتذة وقلة فرص العمل أمام الخريجين، و تناقص التمويل الحكومي وندرة التمويل الأجنبي، وتدهور البنية التحتية والتكنولوجية اللازمة لتعليم الفنون. تمثل معاهد وكليات تعليم الفنون القليلة الباقية في البلدان الأربعة جزراً مهددة بالغرق أو التأكل، وغير قادرة على التواصل مع مثيلاتها في بلدان أكثر تقدماً، نتيجة نقص المعارف وعدم اجادة اللغات الأجنيبة والفارق التكنولوجي الكبير. أحد الحلول غير المستكشفة لهذه المشاكل هو ايجاد مسارات بديلة لتعليم الفنون بتكلفة أقل وباحتياجات تكنولوجية أبسط، تكون في متناول مجتمعات النازحين واللاجئين داخل هذه البلدان وخارجها، مع تسويق اجتماعي للمنتج الفني يجد له مكاناً بين الاحتياجات الملحة لهذه المجتمعات.
تشهد فلسطين ربما الوضع الأصعب – وليس الأسوأ – بين البلدان العربية التي تدور فيها رحى الحرب، إذ يستمر الاحتلال الاسرائيلي لهذا البلد ويصل إلى عقده السابع، دون حسم يرجى لأحد الجانبين. وبالمقارنة مع الأعوام التالية لاتفاقية أوسلو عام 1993 التي حملت تفاؤلاً بإمكانية ايجاد حل وسطي يقضي بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة اسرائيل على بعض من أرض فلسطين التاريخية، وصحبت مع هذا التفاؤل تدفقاً كبيراً في المساعدات المالية الدولية للمؤسسات الأهلية الفلسطينية، نال المؤسسات الثقافية منها جانب لا بأس به، أتت الاعوام التالية للإنتفاضة الفلسطينية الثانية التي انتهت عام 2005، بإحساس واسع ضمن الجماهير الفلسطينية بفشل اتفاقية أوسلو، وفقدان الأمل بشكل متزايد في حل الدولتين، وخيبة أمل كبيرة في القيادة الفلسطينية، وازدادت منذ ذلك الحين وطأة الاحتلال الاسرائيلي، متمثلة في اغلاق للطرق وتضييق كبير على العمل الثقافي في مدينة القدس بالتحديد، وبناء لجدار الفصل العنصري، وعزل شبه تام لقطاع غزة. ابتداء من عام 2007 حدث تناقص تدريجي في المساعدات الدولية لفلسطين، وشمل هذا التناقص برامج التمويل الحكومية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي وحكومة اليابان وصندوق النقد الدولي، كما شمل برامج التمويل الخاصة بمؤسسات مانحة خاصة مثل مؤسسات فورد والمجتمع المفتوح وغيرها. حدث أيضاً تدهور مضاعف في هذه المساعدات بعد موجات هجرة اللاجئين السوريين في 2012، إذ وجه جزء كبير من المساعدات المالية إلى هؤلاء اللاجئين، في أوروبا وفي بلدان الجوار السوري.
أثر هذا التناقص في التمويل بشكل كبير على الحياة الثقافية والناتج الفني في فلسطين، فتقلصت برامج الكثير من المؤسسات النشيطة مثل مسرح وسينماتيك القصبة، ومسرح عشتار، ومسرح الحرية، وواجه مسرح الحكواتي الإغلاق أكثر من مرة، وأغلقت بالفعل مؤسسة أوغاريت[5]. "اليوم، في عام 2016، وبعد مرور قرابة عقدين على تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، ومرور أربع سنوات على انضمام فلسطين إلى اليونيسكو، وتوقيعها على ثماني اتفاقيات هامة من اتفاقيات اليونيسكو، منها اتفاقية مؤتمر عام 2005 التي تنص على حماية وتنويع أشكال التعبير الثقافي، ومع إظهار القطاع الثقافي المستقل المزيدَ من النضج في الشكل والمضمون، يحدق بالمشهد الثقافي الفلسطيني المستقل خطر الإزالة، إذ يواجه العديد من المنظمات الفنية والثقافية غير الحكومية في الضفة الغربية والقدس خطر إيقاف عملها وحلِّها نتيجة صعوبات مالية وتنظيمية. حرية التعبير في فلسطين تتراجع بشدة، ما يؤثر على البيئة القادرة على احتضان خلق أعمال فنية مستقلة. كذلك، يبدو القطاع الثقافي خاضعاً لهيمنة لاعبين جدد، وتبدو التعددية الثقافية في خطر. وبطبيعة الحال، يترك الوضع السياسي في الدول المجاورة، في فترة ما بعد الربيع العربي، أثره على فلسطين عموماً، والقطاع الإبداعي المستقل فيها خصوصاً، مع تغيُّر الأولويات الإقليمية والعالمية. يخضع عمل القطاع الثقافي الفلسطيني المستقل في القدس لتضييق شديد وعدائية مستمرة من الحكومة الإسرائيلية، أما في غزة، فيعاني القطاع المستقل من كل الجوانب، منذ الانقسام الفلسطيني في العام 2006[6]"، ويناضل الفنانون الفلسطينيون القلائل الباقون في قطاع غزة لتقديم أعمالهم في غياب مصادر تمويل وفي ظل رقابة متعسفة تمارسها سلطات حماس.[7]
ورغم هذه الصعوبات الكبيرة، ما زالت العديد من المؤسسات الثقافية الفلسطينية قائماً ونشطاُ وناجحاً، ويرجع هذا إلى قوتها المؤسسية وإلى وجود دعم اجتماعي واسع لها، وإلى الدعم المالي المحدود الذي مازالت تقدمه مؤسسات مانحة فلسطينية هامة مثل مؤسسة التعاون ومؤسسة عبد المحسن قطان. من الهام أيضاً ذكر أن وزارة الثقافة الفلسطينية، على ضعف دورها وقلة مواردها المالية، كانت الوزارة العربية الوحيدة التي أعدت استراتيجية مكتوبة ومعلنة للقطاع الثقافي للأعوام 2011 – 2013، شارك في اعدادها ممثلون لمؤسستي التعاون وعبد المحسن قطان، مع ممثلين للجهات الحكومية ومنظمة اليونسكو. من الملفت أيضاً نموذج تعليم الفنون البديل الذي أسسته فرقة مسرح الحارة في منطقة بيت لحم، وهو يركز على تعليم تقنيات فنون الآداء، ويعنى بإعداد الخريجين لسوق العمل[8].
تنفرد الحياة الثقافية في فلسطين، لأسباب تاريخية متعلقة بالصراع مع سلطات الاحتلال وغياب وجود دولة مستقلة ومؤسسات ثقافية حكومية، بتقديم نماذج لمؤسسات ومبادرات أهلية ناجحة، على الأخص من ناحية التمويل والإدارة الثقافية، ويأتي الحضور الثقافي الفلسطيني المتميز على المستوى الدولي تعبيراً عن هذا النجاح.
بشكل أعم، نال العمل الثقافي نصيب أكبر من الأذى في هذه البلدان الخمسة، ليس فقط بشكل مباشر بسبب الحرب أو الاحتلال أو الانقسام الأهلي، وانما أيضاً بشكل غير مباشر نتيجة لصعود التيارات الدينية المتطرفة واكتسابها تأييداً شعبياً في بعض المناطق داخل هذه البلدان. ولم يقتصر الأمر على حالات المنع المباشر للأعمال الفنية وتهديد الفنانين، بل تعداه لما هو أخطر وأكثر عمقاً: إعادة ترويج المعتقدات التقليدية التي بدت وكأنها اندثرت والتي تقضي بتحريم الفنون، وبالطبع تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء، بل بين الأطفال الذكور والإناث، فضلاً عن الاستهزاء بكل ما يتعلق بالإبداع الفني والأدبي واعتباره أمراً تافهاً لا يليق في ظروف الحرب أو الصراع السياسي.[9]
يجد الفنانون والناشطون الثقافيون في معظم هذه البلدان أنفسهم في وسط حلبة صراع محتدم بين التيارات التي يطلق عليها "علمانية"، والتي يصنفون عادة ضمنها، ومعهم أغلب المهنيين والمتعلمين من الطبقات فوق المتوسطة، وتلك التي يطلق عليها "اسلامية" والتي تصطف حولها الشرائح الأوسع من المجتمع من الطبقات الفقيرة وغير المتعلمة. هذا بالطبع تعميم مخل، إذا إن هناك استثناءات كبيرة ولافتة هنا وهناك، ولكن بشكل عام يقل ظهور التيارات العلمانية في القرى والبلدات الصغيرة والطبقات الفقيرة، والعكس صحيح بدرجة أقل. يجد الفنانون أنفسهم في وسط هذا الصراع، وقد انحازوا بقصد، أو بفعل التصنيف الإعلامي، إلى التيارات العلمانية، وبالتالي، وبشكل عام، يعتبرون معادين للتيارات الإسلامية المحافظة، وتعتبر أعمالهم انتهاكاً للتقاليد الاجتماعية والمفاهيم الدينية التي يعتنقها هؤلاء. يزيد من حدة هذا العداء، في البلدان التي تمر بصراع سياسي عنيف، أن نخبة الفنانين والمثقفين قد تلقت دعماً، وناصرت علناً أو ضمناً، الأنظمة السياسية التي تقف أغلبية الشعب، او الشرائح الفقيرة منه، ضدها. كل هذه العوامل تلعب دوراً هاماً في وصم الفنانين والمثقفين بأنهم أبناء الأنظمة الديكتاتورية، أو أنهم خارجون عن قيم المجتمع، أو أنهم في أحسن الأحوال لا يشعرون بالصعاب التي يمر بها معظم أفراد الشعب.
هذا الوصم للفنانين والمثقفين يعيق، بل يجعل مستحيلاً، أن يقوم هؤلاء الفنانون والمثقفون بدور حيوي في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي. إذا كيف لهم أن يقوموا بهذا الدور وأغلبية من يعنيهم التغيير، ومن يقومون به ويدفعون ثمنه، يعادونهم؟ النتيجة الفعلية لعزل الفنانين والمثقفين، وأعمالهم، عن عملية التغيير هي أن هذه العملية تجري دون ما تستلزمه من إعادة النظر في القيم والمفاهيم والبنى الاجتماعية الثابتة، وبالتالي يأتي التغيير في صالح التأكيد عليها وتأصيلها إلى حدها الأقصى، أي في صالح اكثر التيارات الدينية تشدداً. بطبيعة الحال، تؤدي نتائج هذا المسار إلى تضييق مساحات حرية التعبير في المجتمع، وعلى امكانية عمل الفنانين، بل على وجودهم أساساً.
السؤال الأن، ربما المعاد، هنا هو كيف يمكن للفنانين أن يغيروا هذه المعادلة؟ هناك محاولات كثيرة في هذا الاتجاه، ولكنها تطرح أسئلة أخرى عن توظيف الفن، وما يستتبعه هذا من تضحية بجوانب الجمال والتجريب والمغامرة في العملية الفنية، وعن الحدود التي يجب أن تكون بين العمل الفني وأنشطة التوعية والتعليم. هذه الأسئلة كلها هي مطروحة بحدة في سوريا واليمن وليبيا والعراق وفلسطين، وهي أيضاً مطروحة في باقي البلدان العربية، حتى تلك التي لم تشهد تغييراً كبيراً، أو توقفت فيها عملية التغيير.
يبدو لي أن أحد خيوط الإجابة قد يكون في ايجاد موقع للفنانين والمثقفين على مسافة آمنة من القوتين المتصارعتين، وبالتأكيد من الأنظمة الحاكمة، دون أن يصبح هذا الموقع فقاعة معزولة عن الواقع الاجتماعي والسياسي، بل يسمح بالاشتباك مع هذا الواقع، ولكن بشكل أكثير حيدة بين الثنائية القطبية العلمانية الاسلامية، ومن يساندونها من الجانبين. لا أعرف ما إذا كان هذا الطرح ممكناً فعلياً، ولا يمكنني تحديد ملامحه بدقة، ولكني فقط أضعه بين يدي القاريء كمخرج محتمل.
[1] من رسالة من عبد الله الكفري، الكاتب المسرحي ومدير مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة، رداً على أسئلتي في يوليو 2017.
[2] المصدر: التقرير العالمي لمنظمة هيومان رايتس واتش 2017.
[3] من رسالة من نبيل الخضر، الناشط الثقافي وعضو المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية في اليمن، رداً على أسئلتي في يوليو 2017.
[4] من رسالة من أحمد البخاري، ناشط ثقافي ومعلوماتي ومدير حركة تنوير، رداً على أسئلتي في يوليو 2017.
[5] المصدر: تقرير السياسات الثقافية في فلسطين لعام 2016 – موقع السياسات الثقافية العربية
[6] المصدر: استشراف مستقبل العمل الثقافي في فلسطين – فاتن فرحات – موقع السياسات الثقافية العربية.
[7] في عام 2011 منعت سلطة حماس فيلم "ماشو توك" لظهور فتاة لا تغطي شعرها في الفيلم، كما منعت هذه السلطات حفلاً للفنان الفلسطيني ذي الشعبية الكبيرة محمد عساف في 2014.
[8]من رسالة من مارينا برهم – مدير مسرح الحارة، رداً على أسئلتي في يونيو 2017.
[9] هناك أمثلة عديدة على منع داعش لأي مظهر من مظاهر الاحتفال في المناطق "المحررة" في سوريا، بالاضافة إلى قيام الفصائل المسلحة بتغيير كلمات الأغاني الشعبية واستخدامها في الدعاية السياسية، وبالطبع الرقابة الصارمة التي يمارسها النظام السوري تجاه الأعمال الفنية منذ عقود طويلة. معظم هذه الأمثلة وغيرها مذكور في مقال "الفن السوري في المناطق المحررة، أوركسترا بلا قائد" – موقع عنب بلدي - 2016